تهتم جغرافية المدن بفهم المدينة من خلال دراسة الأنشطة الموجودة داخلها، وتفسير التنظيمات التي تنتظم حسبها الأنشطة البشرية لذلك تهتم بدراسة أنماط استعمالات الأرض والتغيرات التي تطرأ عليها ، وتهتم أيضا بدراسة الأحياء الاجتماعية المختلفة في المدن وكيفية انتظامها واختلافها من مدينة إلى أخرى، ومن فترة زمنية لأخرى، وبدراسة حركات السكان وانتقالهم داخل المدينة من أجل العمل والتسوق.
طبيعة جغرافية المدن:
تمثل المدن في العصر الحاضر مراكز للقوة الاقتصادية و السياسية و الاجتماعية، و أماكن السيطرة و الإبداع، وتستثمر مبالغ ضخمة من الأموال، كما تشهد نمو المدن، معدلات نمو عالية لم تشهدها من قبل. يتطلب الاقتصاد الحديث سهولة في الوصول إلى المعلومات، و بما أن التعامل مع المعلومات و تبادلها، يحتاج تجمعات اقتصادية و مباني و شبكات للمواصلات و الاتصالات و مصادر للمعلومات البشرية التي تتوافر أصلا في المدن بعامة والمدن الكبرى بخاصة، الأمر الذي دفع المؤسسات الكبرى إلى إقامة إداراتها في هذه المدن.
تنحصر المهمة الرئيسية لطالب جغرافية المدن في فهم الطرق و الأساليب أو العمليات التي عملت على تشكيل المدن وتغييرها في الماضي، و التي لا زالت تعمل على تشكيلها في الوقت الحاضر، و يحاول التصدي للعديد من الموضوعات مثل ماهية جغرافية المدن، و ميدانها و مدى ارتباطها مع العلوم الجغرافية الأخرى و مع بعض العلوم الأخرى، و تفسير التحضر التي تمر به الدول في العصر الحاضر، و التأكيد على نتائج هذه العملية، و بخاصة فيما يتعلق بحياة الناس و أنشطتهم المختلفة.
تعريف جغرافية المدن وأهميتها
جغرافية المدن هي أحد فروع الجغرافية البشرية، وهي فرع حديث في حقل الجغرافيا ولم يحتل المكانة المناسبة له إلا في أربعينيات القرن المنصرم، وذلك لتعدد مشاكل المدن وتزايدها نتيجة لتزايد سكان المدن, وبأعداد كبيرة متتالية, بشكل لم يسبق له مثيل، جعل من الجغرافيين لما درسوه نظريا من تحليل العلاقات بين المكان والإنسان عنصرا فاعلا في المساهمة بالدراسات التي تساهم بشكل افضل في حل مشاكل المدن وعلاقاتها الإقليمية، ونظرا إلى إن أي علم من العلوم ينقسم إلى قسمين نظري وتطبيقي وان كل منهما يكمل الأخر.
فان الجغرافي المتخصص بدراسة جغرافية المدن بشكل خاص يكون قد قدم مادة دقيقة محّصت ما في المدينة, وقدّم توقعات نحو تطويرها في المستقبل، وهو نظري في ذلك, إلا إنه سرعان ما يصبح تطبيقاً إذا ماساهم في الإفادة لتكون المدينة بشكل افضل. وبما إن الجغرافي في مجال المدن من سكان المدينة ـ غالباً ـ لذا فهو أول من يكتشف المدينة التي يسكنها وينظر في تطويرها مستقبلا ً، ونظراً لإنتشار المدن ونموها السريع, خاصة ً بعد تطور الصناعة, والتي من خلالها تطورت مواد البناء وتكنولوجيا البناء والتعمير ووسائل النقل, فان ذلك يعتبر ميدانا واسعاً يمكّن الجغرافي أن يساهم فيه مساهمة فاعلة بما لديه من خبرة وتدريب في إيجاد الحلول المناسبة . ولا تختلف جغرافية المدن عن الجغرافية بشكل عام ، إذ تعتبر( الجغرافية اُم العلوم ).
يعرف برايان بيري جغرافية المدن بأنها فرع من الجغرافية البشرية تدرس المدن أنظمة ضمن النظام الحضري، هناك طريقتان تتم بواسطتهما دراسة المدن وهما :
- دراسة النظام الحضري تدرس المدن هنا على الأساس أنها تشكل المكونات التي يتكون منها النظام الحضري، وتتم بواسطة هذا الاتجاه دراسة المشكلات التي تتعلق بالتوزيع المكاني للمدن وتباعدها، ودراسة أنماط الحركة المعقدة والتيارات والعلاقات التي تربط المدن بعضها بعضا، أو دراسة التفاعل المكاني دراسة المواقع النسبية للمدن، يتم التركيز على التباين المكاني في الخصائص الاقتصادية والاجتماعية بين مجموعة المدن في القطر أو الإقليم التي تشكل النظام الحضري، فمن خلال مقارنة الصفوف في المصفوفة الجغرافية يتضح التباين في الخصائص المختلفة بين المدن. تتم هذه الدراسة على مستويات مختلفة : إقليمية وقومية وعالمية. الشكل يوضح المصفوفة الجغرافية للنظام الحضري والتركيب الداخلي للمدينة.
- دراسة التركيب الداخلي للمدينة : ينظر إلى المدينة، على أساس أنها تشكل مساحة area ، فندخل إلى داخلها لدراسة تركيبها الداخلي، حيث تتكون المدينة من عدة مناطق، وتحتل الأعمدة في المصفوفة الجغرافية وتتم هنا دراسة التوزيعات و الأنماط و التنظيمات المكانية للظاهرات و الأنشطة داخل المدينة مثل : (الكثافة السكانية ومستوى الدخل ونوع السكن واستعمالات الأرض المختلفة وأنماط الحركة ...الخ ). وتهدف هذه الدراسات إلى إبراز التباين في خاصية أو أكثر بين مدن مختلفة أو في مدينة واحدة ، في نقطة زمنية أو أكثر.
وبهذا تتهم بأنها علم يأخذ من كل العلوم الأخرى، لذا يحاول الجغرافي إيجاد شخصية مختصة به، إذ إن الجغرافية علم يبحث في أسباب توزيع الظواهر الطبيعية أو البشرية، فالتوزيع المكاني للظواهر ما هو إلا وسيلة نحو فهم أفضل للظاهرة البشرية الحضرية وليس غاية في حد ذاته، إذ إن التوزيع يصف الظاهرة ولا يحللها، ولهذا يقوم الجغرافي بتحليل المتغيّرات التي أوجدت أو أثرت في توزيع معين لهذه الظاهرة, وبهذا يكون قد بحث عن وظيفة الظاهرة وليس مجرد الإكتفاء بوصفها وصفاً سطحياً بسيطاً لا يعطي للموضوع بعدًا جغرافيًا ، عكس الذي يبيّن الأسباب الجغرافية الطبيعية والبشرية التي ساهمت في تكوين هذه الظاهرة، إذ ليس من الجغرافية في شيء, أن نقول مثلا (إن النجف مدينة دينية فيها الكثير من المظاهر الحضرية ...الخ ) بل يصبح الأمر جغرافيا عند القول ( النجف مدينة تقع في وسط العراق، على أطراف الصحراء الغربية، تبعد بمقدار (10كم )عن نهر الفرات...الخ ), بهذا يمكن أن نبيّن إن جغرافية المدن شأنها في ذلك شأن بقية فروع الجغرافية, إلا إنها ضمن إطار المدينة لكونها ـ المدينة ـ جزءاً من أقاليم جغرافية أكثر اتساعاً ، فكان ميدانهم دراسة الإختلافات الإقليمية في توزيع المدن ، لأن المدينة ليست معزولة عما يحيط بها من مناطق ريفية أو مدن, بل هي كائن عضوي يؤثر ويتأثر بما يحيط به من مناطق ريفية أو حضرية.
تهتم جغرافية المدن بفهم تفرد المدن و ما ينتظم داخلها من ترتيبات و تنظيمات للخصائص الاقتصادية والاجتماعية و خصائص السكن من خلال العلاقات المكانية بين السكان من جهة و بيئاتهم من جهة أخرى. و تقدم المدن إجابات لعدة أسئلة مثل:
- لماذا تنمو بعض المدن، على الرغم، من عدم وجود إمكانيات و فرص تساعد على نموها؟ و لماذا المدن الأكبر بمعدلات أسرع، في السنوات الأخيرة، و بخاصة في الدول النامية التي تتميز بمستويات مرتفعة من الفقر؟
- لماذا تشهد بعض المدن، في العصر الحاضر، تدهورا في بيئاتها الطبيعية؟
تزود جغرافية المدن الطلبة بمعرفة عملية لمفاهيم موقع المدينة ووظيفتها و عملية نموها، و فهم التركيب الداخلي لها. يؤكد أسلوب البحث في جغرافية المدن على الموقع و الحيز الجغرافي وعلى دراسة العمليات التي تؤدي إلى وجود التوزيعات المكانية للأنشطة البشرية، حيث يشكل الاهتمام المكاني الأساس في الجغرافيا، و تضيف الخريطة بعدا إضافيا للبحث الجغرافي.
إن جغرافية المدن تبحث في إشغال و أنماط استعمالات الأرض، و توزع السكان حسب الخصائص الاقتصادية والاجتماعية و الديموغرافية، فالجغرافي يحاول البحث عن النمط أو الترتيب الذي تنتظم بموجبه الظاهرة الجغرافية في الحيز أو المجال الجغرافي، و يحاول الإجابة عن السؤال الكبير: لماذا تنتظم ترتيبات او تنظيمات تظهر في المدن؟ و يقوم بعملية التفسير بعد أن يقوم بوصف الظاهرة بشكل عام.
لا يمكن دراسة واقع المدن بمعزل عن دراسة التاريخ و التطور الاقتصادي- الاجتماعي و الثقافي لهذا المجتمع.
يتطلب فهم المدن بشكل ملائم، إتباع منهج مشترك مع علوم و تخصصات مختلفة مثل: علم الاجتماع و الاقتصاد و الهندسة المعمارية و التخطيط و التاريخ و الإدارة، بالإضافة للجغرافيا. تشكل جغرافية المدن إطارا لدراسة متميزة تحتل مواضيع الحيز و المسافة و الموقع و الإقليم مكانة مركزية فيها.
فالحيز أو المجال، بالنسبة للجغرافي، يعتبر عاملا مؤثرا في أنماط التطور الحضري و في طبيعة العلاقات بين فئات المجتمع المختلفة في المدن. و يعتبر الموقع مهما بالنسبة إلى للجغرافي، نظرا للاهتمام التقليدي للجغرافيا بالمكان وبالتباين المكاني للاماكن و المواقع المختلفة. تميزت جغرافية المدن بالأسلوب التحليلي الذي يشكل أساسا مهما فيها، فدراسة التباين المكاني، و تحديد التنظيمات المكانية في النظام الحضري و تفسير العلاقات المتبادلة بينها، تؤدي جميعا إلى تشكيل أقاليم وظيفية و مناطق ثانوية.
تعليقات